نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٤ بتاريخ ١٣ يونيو ٢٠٢٤.
صن تزو (٢٠١٨ [القرن الخامس قبل الميلاد]) «فن الحرب»، فنغربرنت للنشر.
ستيفن غراهام (٢٠١١) «مدن تحت الحصار: العمران العسكري الجديد»، فرسو للنشر.
جمع الجنرال الصيني صن تزو حكمة حروب «الدويلات»، ويؤرخ لها بالفترة ٤٧٥ إلى ٢٢١ قبل الميلاد، ما قبل قيام الإمبراطورية الصينية الأولى، في مؤلف صغير الحجم عظيم الأثر عنوانه «فن الحرب». تجددت حياة هذا المؤلف في الأكاديميا العسكرية الغربية مع كل مواجهة امبراطورية، خلال الحرب الأميركية على فيتنام والحروب الأميركية على العراق وأفغانستان. والكتاب في الواقع أقدم وثيقة بشرية في مسألته، وتحرير بليغ للاستراتيجية والتكتيك، اتخذه الثوار الصينيون بقيادة ماو تسي تونغ انجيلا لهم في حربهم ضد الغزو الياباني وضد خصومهم الكومنتانغ، ويعرفه الضباط في منهج تعليمهم وتدريبهم.
تقرأ عند صن تزو: "أعلى درجات القيادة هي إحباط خطط العدو، والأقل درجة منع التحام قوى العدو، ودون ذلك الهجوم على قوى العدو في الميدان، وأسوأ الخطط على الإطلاق حصار المدن المسورة". ويواصل: "القاعدة إذن هي عدم محاصرة المدن المسورة إذا تيسر تفادي ذلك. [...] سيدفع القائد الذي لم يعد يستطع السيطرة على توتره بجنوده مهاجمين كنمل غاص، والنتيجة مقتل ثلث الجنود بينما تظل المدينة عصية." لكن، كيف تخضع مدينة إذن؟ صارت هذه القضية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عقدة في العسكرية الغربية، نشأ حولها علم بحاله تحت عنوان «العمران العسكري الجديد»، مداره الدروس الحربية من محاولات إخضاع مدن عامرة في بلاد المستضعفين، بغداد وكابول وغزة وغيرها، ومحاولات حماية حواضر أوروبا الغربية وأميركا من هجمات منظمات قتالية غاضبة وانتحاريين أفراد.
بعض شغل هذا العلم، جواب على سؤال: كيف تبدو المدينة لمدفعجي؟ ولا مناص، فقد تحول واحد من كل عشرة من أهل العالم إلى سكنى المدينة وتحولت كذلك الحروب من مواجهات بين تشكيلات عسكرية في «النقعة» إلى حروب كثيفة في بيئة العمران الحضري، وتضعضع كذلك التمييز التقليدي بين الحروب داخل الدول والحروب بين الدول. أما العقيدة الأهم في «العمران العسكري الجديد» فهي ألا فرق يعتد به بين مدني وعسكري، بل ما في حاجة اسمها مدنيين، فكل مدني هو إما مقاتل مخاتل، أو محتمل، أو مشروع مقاتل، أو متعاون، على كل حال هدف عسكري مشروع.
فاقمت عدة عوامل من هذا التوتر الحربي للمدينة، على إطلاقها، ومن ذلك في بيئة الكرب الافريقية: تسارع التحول الحضري، ودونك انفجار مدن مثل نيالا والخرطوم بالسكان، نازحين وغلابة ومغامرين كسيبة؛ تباعد الخليج الفاصل بين غني وفقير، توسع مسارح الصراع الدولي على الموارد، الانقلاب الكبير في الاقتصاد السياسي للدولة في ربع القرن الأخير والصدمات المتتالية لتحلل الدولة من كل دور اجتماعي، موية شراب ومدرسة وشفخانة. وملخصه أن الدولة فقدت كسوار للاجتماع عبر حزام يشق العالم، من أفغانستان حتى مالي، احتكارها للعنف وسيطرتها على الجغرافية. وكما أطبق التسليع على كل أوجه الحياة أطبق كذلك على المقاتل، فهو بضاعة في السوق، لا يهم من البائع ومن المشتري، يقاتل في مليشيا حضرية أو ريفية أو جيش خاص لصاحبه فلان أو حركة مسلحة إقليمية أو شركة أمنية أو كما تيسر، موسمي أو فُلْ تايم!
والمدينة بهذا التصور، بغداد أو كابول أو مقديشو أو غروزني أو غزة أو الخرطوم أو الفاشر، ليست فقط موقعاً وجغرافيةً للحرب بل هي وسيلة الحرب ذاتها، وسيلة مرنة دائبة الحركة والتغير ويمكن تكييفها ظرفيا، وأول ذلك تفجير التمييز بين مدني وعسكري فيها، فكل حي مقاتل وكل موقع ميدان قتالي. وبذات القياس لا معنى للتمييز الصارم بين المحلي والإقليمي والكوني، فشبكات المال والسلاح لا تعترف بالخريطة ولا تلقي بالا للحدود القطرية.
لفلاسفة الحرب الجديدة «رطانة» خاصة، تقابل في تعقيدها وتجريدها «رطانة» فلاسفة الرأسمالية المتأخرة، من صف ما بعد البنيوية على سنة دولوز وغواتاري، وتستلف منهم عبارات ومفاهيم. فالحديث عن حروب غيرية، هجينة، غير متوازية، ريزومية أو جذمورية، أو حروب الجيل الرابع. والمدينة وفق هذا التصور كتلة ثلاثية الأبعاد تتمنع على الرصد والمتابعة بطبقات فوق طبقات من الحواجز المحسوسة، جغرافية بناءها وفضاءها، وحواجز بشرية، أهلها، وحواجز اجتماعية وثقافية، العلاقات بين أهلها وشفرتهم الثقافية. وجمع كل ذلك «الفضاء القتالي» الذي تدور فيه معركة لا تبدأ لتنتهي، هي الحرب التي هي السلام بعبارة جورج أورويل في «١٩٨٤»، حرب تدور في الشوارع والخيران والعمارات السوامق والرواكيب والقطاطي ودور العبادة، حرب شاملة كبسط الأمن الشامل، ولا تتمايز فيها التكنولوجيا السلمية أو المدنية من الحربية أو العسكرية، وأولها تكنولوجيا الاتصالات الرقمية وتطبيقاتها الشبكية في الرصد والمتابعة والتصوير والبث الحي، صوت وصورة.
لذلك، العدسة في هذه الحرب سلاح كاسر، فهي حرب على الهواء مباشرة، تنقل وتبث للمستهلك كأداء مشهدي على شاشة يقبضها في يده، وجاذبيتها أنها وبرغم وربما بعلة دمارها الفتاك والقريب حتى الغبار على شعر الجلد، تقدم للمستهلك ما يتعطش له، هدف ومعنى للحياة ومغزى. والمشهد الحربي كما تنقله الصورة المصنعة أم فلاتر، وهي عمل فني، أوقع من الحرب نفسها، صورة فاقت الأصل وفضت الحجاب الرقيق بين الواقع والخيال، حجاب «الحرية».
المدينة في عين المدفعجي إذن خريطة يعيد تركيبها أو يطيح بمعالمها بالكلية، يفض ختمها بمدفعه ويفجر فضاءها القتالي ثم يفتح الطريق لاكتساحها الحربي بالسلاح وشبه الحربي بإعادة الإعمار على نمط جديد يحرث أرباحا طازجة بالمضاربات العقارية. ولا بد لتبرير هذا العنف الكاسح من عدو حضري أو طبقي أو عرقي جوهري الشر خارج التاريخ، لا يفارقه شره وإن قام وسطه حزب شيوعي، عدو يسكن عالما للأموات، دمه وماله وعرضه حلال بلال. ويدخل في هذا الباب إعادة رسم خريطة مدن بحالها بالقوة العسكرية كاكتساح الآلة الحربية الأميركية للفلوجة ومواقع أخرى للمقاومة العراقية وهدم الآلة الحربية الإسرائيلية للمعمار الفلسطيني فوق الأرض وتحتها بحرب ضروس أو بأوامر للإدارة العسكرية أو المدنية للمدن، ولا فرق، «إبادة المدينة» في أدب «العمران العسكري الجديد». ولكن: شعبك أقوى وأكبر مما كان العدو يتصور!
you always coming with thought , keep going , war should stop
ReplyDelete