نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٥٣ بتاريخ ٧ نوفمبر ٢٠٢٤.
نشرت جريدة البيان الإماراتية في العام ٢٠٠٣ كلمة مضيئة للمرحوم محمد إبراهيم نقد عنوانها «المجتمع المدني العربي يواجه خطر التحول إلى شاهد زور»، كانت مفتاحا من مفاتيحه التي غمض على بعضنا وقتها لأي قفل صنعت، حتى جاء ضحى الغد وبرزت عورتنا «رحط أمك». وكتب محمد في كلمته محذرا من الخلعة أمام «المجتمع المدني» الذي جاء جديدا في عقد التسعينات كأنه إعادة اختراع العجلة أو في عبارته «التهاب الغدة النكافية» وكان عندنا «أب عديلات» متعدد الأشكال والصور، وجرد المرحوم محمد منها: "الجمعيات الأدبية، الأندية الرياضية الثقافية الاجتماعية، أندية الخريجين، أندية العمال، الأحزاب السياسية، الحركة النقابية، حركات المزارعين والطلبة والنساء والشباب، اتحاد الصحفيين، اللجان الشعبية للدفاع عن الحريات، اللجان القومية للتضامن مع شعب مصر، كينيا، العراق، الكنغو، الروابط الأدبية في عطبرة وسنار وكوستي والأبيض ومدني، التجمع النقابي، التجمع الوطني الديمقراطي، مجالس الآباء والأمهات، الروابط القبلية والإقليمية، تضامن قوى الريف، اتحاد الكتاب، الجمعيات الخيرية."
لكن ميز المرحوم محمد ما جد على مخدة «المجتمع المدني»، فهو على عكس «أب عديلات» الليلنا، نسيج في شبكة مراكز ومؤسسات عالمية داعمة ممولة؛ نقل المرحوم محمد عن الدكتور حيدر إبراهيم قوله: "انحرف كثير من المنظمات عن أهدافه وأصبح ميدانا لصراعات داخلية قائمة على أسس ذاتية وشخصية، وهي خصومات لا ديمقراطية في الأسباب ووسائل إدارة الصراع، تميزه هذه المنظمات بصراع المكانة والوجاهة والامتيازات المادية والمعنوية. وغالبا ما تتحول ديمقراطية هذه المنظمات إلى تحكم شلة نافذة تستولي على فائض القيمة المتمثلة في المال والسفر والعلاقات العامة، انها حضرية ونخبوية، وهذا يعني أن العضوية محصورة وقليلة التأثير، أولويات الممولين قد تؤثر في تحديد الأولويات الوطنية والمحلية، بالإضافة إلى أساليب العمل التي يتوقعها الممول حرمت المنظمات من ابتداع طرائق جديدة، الوضع الحالي لمنظمات المجتمع المدني لا يبشر بمستقبل واعد."
وضرب المرحوم محمد لهذا الجنس مثلا اجتماعا لمنبر المجتمع المدني لجبال النوبة والنيل الأزرق انعقد في نوفمبر ٢٠٠٢ في فندق في كمبالا بدعوة من منظمة عموم إفريقيا وترتيب منظمات العدالة الإفريقية لحقوق الإنسان وتمويل وكالة التنمية الدولية البريطانية، وتساءل المرحوم محمد من هم مندوبو المنبر وما هي المنظمات التي انتدبتهم وقد تعذرت مشاركة طرف من الحركة الشعبية لتحرير السودان التي منعت كذلك منظمات المجتمع المدني العاملة في مناطق سيطرتها من الحضور.
جاء المرحوم محمد كذلك مما قرأ بمبادئ قيل إنها تحكم نشاط المنظمات غير الحكومية فهي بحسب هذه النصوص: "تزول نشاطها في حير محدود، وليس لها دور سياسي مباشر؛ لا تعنى بتغيير الحكومات، أنما تضغط كيما تحترم الحكومات حقوق الإنسان؛ ممنوعة بحكم تكوينها وقانون تسجيلها من الفعل السياسي والتغيير السياسي؛ يلتزم العاملون فيها الحياد والابتعاد عن النشاط الحزبي أو الحزبي الصارخ؛ يلتزم مركز المنظمة التمويل وكورسات التدريب ومرتبات المتفرغين." وقارن هذه الأوجه للحيادية بمنفستو ليبرالي جديد في الواقع شهدت عليه مجلة الإكونومست. وجاء كذلك من مجلة الإكونومست بحقيقة أن منظمة أوكسفام تلقت من الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي في العام ١٩٩٩ حوالي ٢٤ مليون جنيه إسترليني من جملة ميزانيتها البالغة وقتها ٩٨ مليون جنية إسترليني، وتعتمد من مجموع ١٢٠ منظمة غير حكومية كبرى رصدت الإكونومست مالها ١١١ منظمة كليا على الحكومات، فهي إذن ليست منظمات "غير حكومية" بأي معنى دقيق. وعند الإكونومست، صوت الرأسمالية الناضجة منذ العام ١٨٤٣، العلة أن المراكز الرأسمالية أوكلت لهذه المنظمات مهمة مهام رعاية المعيشة، أو قل إعادة إنتاج قوى العمل، في الهامش الكوني. ذلك في محل الدولة التي قامت لتفكيك حواجزها الجمركية وقوامتها المالية والاقتصادية صامولة صامولة جيوش وبنوك وصناديق استثمارية ومنظمات مجتمع مدني دينها الليبرالية الجديدة.
بعض أصول كلمة المرحوم محمد في أصيل الاتحاد السوفييتي وهو يترنح ترنحه الأخير حتى انحلال وثاقه في أواخر العام ١٩٩١. ولم تغب عنه بطبيعة حال شخصية «المنشق» من العالم السوفييتي التي اندثرت مع اندحاره، وكان شغلها أن ترثه، والله خير الوارثين. عادت الدكتورة شيلا فتزباتريك، مؤرخة الاتحاد السوفييتي المرموقة، إلى هذه الشخصية في كلمة من وحي كتاب للدكتور بنجامين ناتانز في عدد أكتوبر من «عرض لندن للكتب». و«المنشق» السوفييتي مولود للربيع السوفييتي الذي أعقب الحقبة الستالينية، نجم لامع في السماء الغربية بل طاهر مقدس متى أعلن مظاهرته للنظام السوفييتي لكن قليل الشعبية وسط مواطنيه السوفييت، بالكاد يعرفونه، أو مواطنيه من روس ما بعد الاتحاد السوفييتي. وجاء ناتانز بإحصاء من العام ٢٠١٣ يقول لم يتعرف سوى واحد من كل خمسة مواطنين روس على أي من مشاهير المنشقين السوفييت من حقبة الحرب الباردة. وكانوا بحسب ناتانز وما عرفته عنهم الدكتورة فيتزباتريك شخصيات مخالفة وذوي عقائد مكينة وإن لم تكن على الدوام منطقية، تحفزهم خصومة غريزية أو تكاد مع السلطات السوفييتية لكن ليس الأميركية أو الغربية بطبيعة الحال، أشهر طباعهم وإن عرفوا أنفسهم كديمقراطيين تسفيههم التام لرأي عامة الناس، وتصيدهم الصراع مع السلطات تصيدا بصورة صبيانية وعلى كل حال شديدة الصفوية، ملؤهم الثقة بالنفس والتأفف من سنن من حولهم، وشاغلهم قضايا الكون، فما مطابخ موسكو الضيقة دي، تقوم منظماتهم السياسية لتفشل فليس من طبع أحدهم العمل الجماعي بحق، اختفوا من سجل التاريخ يوم اختفى الاتحاد السوفييتي. لم يقبل ناتانز نسب «المنشق» إلى تراث الانتلجنسيا الروسية الراديكالية ما قبل الثورة البلشفية. وقال بينما توجهت الانتلجنسيا الراديكالية في القرن التاسع عشر إلى الشعب شغلها التحريض وسطه اكتفى المنشق بالحديث إلى من يشاركونه الرأي في حلقات خاصة، كانت مدار عالمه. ومتى خرج إلى العالم خرج برسالة إلى الصحافة الغربية. من ذلك ما شهدت الدكتورة فتزباتريك في موسكو السبعينيات، قالت تكرر مشهد وقوف مجموعات صغيرة من جنس «المنشق» بغرض الاحتجاج عند مكتبة لينين يحملون بوسترات تنادي بالحرية وحقوق الإنسان، لكن باللغة الإنجليزية، جمهورهم كاميرات مراسلي الصحافة الغربية، ومتى ما حضر هؤلاء والتقطوا الصور إياها انفض السامر. فضل هذا الجنس السياسي تسمية نفسه «اناكوميسلياشي»، مفكر مستقل من غير التيار السائد، والله بدي الجنة.
No comments:
Post a Comment