Friday, 23 May 2025

نأكل مما نزرع: عن تقرير بعثة الفاو للموسم الزراعي 2024/2025

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٧٨ بتاريخ ٢٢ مايو ٢٠٢٥.

أصدرت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة هذا الشهر تقرير بعثتها لتقييم المحاصيل والغذاء في السودان؛ تقرير من 64 صفحة يوثّق ما شهدته البعثة من تقصّيها إنتاج الحبوب الغذائية في السودان في الموسم الزراعي 2024/2025. والتقرير حصيلة عمل البعثة الميداني في الفترة من 14 ديسمبر 2024 إلى يناير 2025، إذا قامت ثماني فرق، يتكوّن كلّ منها من مسؤولين من الفاو، ووزارة الزراعة والغابات، ووزارة الثروة الحيوانية والسمكية الاتحاديّتين، ووزارات الزراعة الولائية، بزيارة مواقع الإنتاج الزراعي في الولايات الآمنة تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية: الجزيرة والقضارف والنيل الأزرق وكسلا والبحر الأحمر والشمالية ونهر النيل وسنار والنيل الأبيض. كما قام فريق آخر بالعمل من على البعد لجمع المعلومات المتاحة عن إنتاج الحبوب في الخرطوم وولايات كردفان دارفور. كذلك استفادت هذه الفرق، بحسب ديباجة التقرير، ممّا وَرَد إليها من الأرصاد الجوية، والجهاز المركزي للإحصاء، والبنك الزراعي، ووزارات الزراعة الولائية، وإدارات المشاريع الزراعية. 

بالمختصر، قدَّر التقرير أنَّ مجمل إنتاج الحبوب الغذائية (الذُّرَة والدُّخن والقمح) في الموسم الزراعي 2024/2025 يبلغ 6.7 مليون طن، هو إنتاج يفوق إنتاج الموسم الماضي بنسبة 62%، ويقلّ عن متوسط إنتاج الأعوام الخمسة الماضية بنسبة 7%. قدَّر التقرير إنتاج الذُّرَة لهذا الموسم بـ 5.4 مليون طن، ما يفوق إنتاج الموسم الماضي بنسبة 77%، ويفوق متوسط الأعوام الخمسة الماضية بنسبة 30%. أما الدُّخن فقد قدَّر التقرير إنتاجه هذا الموسم بـ 7.92943 طن، ما يفوق إنتاج الموسم الماضي بنسبة 16%، ويقلّ عن متوسط إنتاج الخمسة أعوام الماضية بنسبة 45%. وقَدَّر إنتاج القمح الذي كان حصادُه في مارس بـ 4.90320 طن، أعلى بنسبة 30% من الموسم الماضي وأقل بنسبة 22% عن متوسط الأعوام الخمسة الماضية. نقَل التقرير عن بنك السودان المركزي أنّ استهلاك الحبوب الغذائية المتوقَّع للعام 2025 في حدود 7.7 مليون طن، ما يترك ثغرة 2.7 مليون طن، بالدرجة الأولى القمح. أما الذُّرَة فإنها تفيض عن الاستهلاك المتوقع بـ 9.79330 طن.

هذه الأرقام بطبيعة الحال عُرضة للملاواة السياسية، ولا شكّ خضعت لجرح وتعديل وشدّ وجذب من منشَئها حتى كتابة التقرير وإجازته، ولا غرابة، فمصلحة حكومة السودان الظاهرة أن تكبت الحجّة المكررة بأن الفجوة الغذائية تساوي عجزاً في السيادة، وتمثّل بذلك إجازة «إنسانية» للسيطرة الإمبريالية. يُحمَد للتقرير أنه ذكَّر القارئة بحقيقةٍ تلتقطها التلميذة النجيبة وحتى غير النجيبة في المدرسة، وهي أنّ السودان بالدرجة الأولى تكوينٌ اجتماعيٌّ زراعيٌّ يرتبط أهلُه بالأرض، وليس تكويناً أونلاين مرتبطاً بالفيسبوك، فأغلب أهله، 65% منهم في آخر تقدير، يعملون في الزراعة. وإنتاج الحبوب الغذائية، بالدرجة الأولى الذُّرَة والدُّخن، من عُهدة مزراعي السودان، بالأدّق عُهدة «التَّرْبَال» الذي يزرع بالأسرة والعشيرة وحداتٍ من 5 إلى 100 فدّان، يُداخِلُها حسب التساهيل العملُ المأجور. وربما زادت نسبة الـ 65% هذه، تحت الظروف الراهنة، بعِلَّة الإبادة الناريّة لاقتصاد الخدمات الذي فَرْهَد لبرهةٍ في حضر الخرطوم. والحقيقة، أنّ تخليط هذين السودانَيْن؛ سودان طبقة الفلاحين المرتبطة بالأرض، وسودان طبقة المعلِّقين المرتبطة بالإنترنت، علةٌ لِلَهْوَجة عظيمة وضرر.

لا تكافئ عبارة «فلّاح» أو «مزارع» الماسخة ثقل «التَّرْبَال» وظلّه الطويل، بخاصةٍ وأنّ «الفلاح» في السياق الأوروبي مفردةُ تبكيتٍ تفيد الدَّمَاكة والسّذاجة وضِيق الأفق، واشتُهِر عند المرحوم ماركس هجاءُ رجعية الفلاحين الفرنسيين في منتصف القرن التاسع عشر، فإنهم عنده "أكوام بطاطس". وربّما واجَهَ غيرُ الناطقين بها صعوبةً أخرى في فرز هذه المواقع، خاصةً أنصار الثنائية العربية/ الإفريقية، ناس آراب وآفريكان، إذ إنّ قاموس النكتة السودانية لا يستهدف «التَّرْبَال» بالسخرية كما هو حال «الفلاح» في السياق الغربي، وإنما فرَزَ لهذا الموقع تعريفاً ظاهرُه عِرْقيّ، فموضوع السخرية هو «العربي»، وتصغيرُه «العِريبي»، وجعَل له جغرافيا في الجزيرة، فهو «عرب جزيرة» و«عرب زوط». أما «التَّرْبَال» فقوامٌ آخر، والكلمة من فعل «تَرْبَل» وتفيد التنشئة والتربية كما في قول شاعر الحَمَر يتغزل: يا رايْقَة التَّرْبَلُوكِي لَيْ، المنقة الشَّتَلُوكِي لَيْ. يتصاعد تقريظ «التربال» في التراث الصوفي درجاتٍ أُخَر، والواقع أنّ مواردَ «المَسِيد» الروحية والمادية مجنَّدةٌ لتنشئة هذا «التَّرْبَال» وصناعته، لكنْ هذه مسألة أخرى خارج مدار هذه الكلمة. 

لا يتوقّف تقرير الفاو عند «التَّرْبَال»، ولا يُعيرُه كثيرَ اهتمامٍ، وإنما يردّ استعادة إنتاج الحبوب في المناطق الآمنة من البلاد إلى وفرة الأمطار وحُسن توزيعها الزمانيّ عبر الموسم، وإلى محدودية الآفات والأمراض التي تصيب المحصول. وخلا ذلك عَرْكَس كل شيء في هذا الموسم. لم تستطع السُّلطات إصلاح الأضرار الواسعة التي أصابت البنية التحتية للريّ في المشاريع الزراعية الكبيرة، وضرَبَ التقرير مثلاً الجزيرة والرَّهَد وحلفا الجديدة، حيث ظلّت قنوات الري على انسدادها؛ والطلمبات خارج الخدمة. لم يسعف البنك الزراعي، ولا البنوك الأخرى، المزارعين بتمويل يُعتدّ به، فاقتَصَر في هذا الموسم على 7 ملايين من العملاء، بالمقارنة مع 22 مليون في العام 2022. وقصَّرت المدخلات الزراعية في جميع أوجهها، فلا بذور محسّنة ولا وقود ولا سماد من جهة السلطات. لكنْ توفَّر العمل المأجور بعِلّة الحرب والنزوح، وأضرّت وفرة العمل بسعره فتناقصت الأجور في كسلا وشمال ووسط دارفور. 

ماذا حقَّق «التَّرْبَال» إذن تحت هذه الظروف؟ زرَع حوالي 27 مليون فدان ذرة، مساحة تفوق بنسبة 15% المساحة المزروعة في العام الماضي وبنسبة 13% متوسط المساحة المزروعة في الأعوام الخمسة الماضية. ووقع أغلب هذا التمدَّد في قطاع الزراعة الآلية الذي توسَّع مساحةً بنسبة 18% عن العام الماضي وبنسبة 32% عن متوسط الأعوام الخمسة الماضية. بصياغة أخرى، تمسَّك صغار المزارعين بالأرض في القطاع المطري وتوسّعوا قليلاً، بنسبة 2% عن العام الماضي و15% عن متوسّط الأعوام الخمسة الماضية، وتحوَّل رأسُ مالٍ جديدٍ، بعِلّة تخريب الخرطوم، إلى زراعة الحبوب الغذائية. كان لكسلا النصيب الأكبر من هذا التوسّع، إذ زادت المساحة المزروعة بنسبة 189% عن الموسم الماضي، وبنسبة 261% عن متوسط الأعوام الخمسة الماضية. أي، عوَّضت كسلا خسارة سنّار التي تولّت قوات الدعم السريع تخريب زراعتها بالفساد في الأرض. 

صمَتَ تقرير الفاو «الموضوعي» عن دَبَارة «التَّرْبَال» في التفوّق على هذه العَرْكَسة المركَّبة والمهدِّدات المتعدّدة في المال والنفس والولد، والحفاظ على إنتاج الحبوب الغذائية قَنْقَر، والحرابة نارها حمراء. يمكن بطبيعة الحال الطعن في مقدار تعافي إنتاج الحبوب بهذه الهِمّة، وظروفُ جمع المعلومات والقيود عليها معلومة، وكذلك تبعاتها السياسية، ولا ينطق تقرير الفاو بهِمّة «التَّرْبَال» هذه، وإنْ شَهِد عليها بأرقامه، فما بطولته؟ إنْ كان من أهداف الدعم السريع تصفية هذا النمط الحياتي؛ تصفية الحوض الزراعي الذي يقوم عليه «التَّرْبَال»، أو إخضاعه لمطلوبات «شَفْشَفة» الثروة بإعرابٍ نيوليبرالي عبر بوابات دبي، فقد خابَ مسعاه، آه وين يا! خرَّبت حملةُ الإرهاب التي شنّتها الدعم السريع المساكنَ والبنى التحتية للماء والكهرباء والرعاية الصحية والتعليم والريّ؛ لم تَستثْنِ شيئاً! لكنها لم تستطع فكَّ ما بين «التَّرْبَال» والأرض من ميثاقٍ تليد. انهدَّت البنى التحتية بالقوى النارية، نعمْ، لكنْ وَقَف «التَّرْبَال» ما هَمَّاهُ شِيْ، وساعدَته برَكةٌ في الأمطار، فدَبَّر مال الزراعة ومدخلاتها، وجازَفَ الوقود، واستطاع بحَوْل الله تنظيم العمليات الزراعية وإكمالها، ما هَمَّاهُ شِيْ، حتى حَصَد!  والنقاش بين الخبراء ليس حول تعافي إنتاج المحاصيل، وإنما حول درجة هذا التعافي. 

هل لهذه البطولة ترجمة سياسية؟ خاطَبَ المرحوم عبد الخالق محجوب في أغسطس 1970 اجتماعاً نشبت فيه الحُمَّى بين كادر الحزب، وقد انشَقّ صفُّهم بين يديه حول الموقف من سُلطة مايو؛ هل الانقلابُ مفتاحٌ للثورة الوطنية الديمقراطية من علٍ، أم ابتلاءٌ للثورة وفتنة؟ وعَرَّف المرحوم يومَها اختبارَ الثورية بقوله "فالثورة الديمقراطية هي ثورة الإصلاح الزراعي، ولا يمكن أن تصل إلى نتيجتها المنطقية إلا باستنهاض جماهير الكادحين من المزارعين على نطاق واسع وإدخالهم ميادين الصراع السياسي والاقتصادي والفكري! والثورة الاشتراكية هي ثورة غالبية الجماهير الكادحة تتمّ بوعيهم وبرضاهم وبمشاركتهم الفعّالة في أعلى مستويات النشاط الثوري. والقوات المسلحة في بلادنا ننظر إلى أقسامها من زاوية انتماءاتها الفئوية والطبقية، ويُحدَّد دورها كجزء من الفئات الفئوية والطبقية المتصارعة في هذه الفترة أو تلك من فترات التطور الثوري" (تقرير عبد الخالق محجوب المقدّم للمؤتمر التداولي لكادر الحزب الشيوعي السوداني، ضمن: الحزب الشيوعي السوداني، «استراتيجية الثورة الوطنية الديمقراطية السودانية»، بدون تاريخ، ص 157). 

كان المرحوم عبد الخالق يكتب في ساعةِ ضيقٍ وأزمةٍ شَقَّت صَفَّ حزبه، لكنّ قضيتهَ ظاهرة، و«جماهير الكادحين من المزارعين» اليوم في موقع الصَّدر، وهم الطبقة الاجتماعية ذات المصلحة المباشرة والظاهرة في إنقاذ السودان، كبلادٍ ذات سيادة، من الأنياب الطويلة والدمويّة لمراكز النهب والسلب في الإقليم والجوار، فالأرض معاشُها وقوامُ حياتها. ومن الغرور البعيد أن يظنَّ سياسيٌّ من منازلهم، أو فنادقهم في عواصم الإقليم، في نفسِهِ ورهطِهِ ولايةً على «التَّرْبَال» ومَصالِحه الديمقراطية أخْنِق فَطِّس، أو يَظنّ ثوريٌّ بإعلانٍ ذاتيٍّ في نفسِهِ كفاءةً لتعيين أولويات «التَّرْبَال»، أهي جاز الطلمبات أم الهويّة الجنسيّة. على كلّ حال، الثابت أنَّ على جمل الشِّيل هذا أنْ يزرع «العيش» في الصباح، وينجز «الثورة الوطنية الديمقراطية» في العصر، وَرُّوني العَدُوْ وأقُعْدُوا فرَّاجة!

No comments:

Post a Comment

 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.