نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ١٨ بتاريخ ٢٢ فبراير ٢٠٢٤.
أسلم الأستاذ محجوب محمد صالح الروح إلى بارئها في ١٣ فبراير الماضي بالعاصمة المصرية القاهرة بعد حياة عامرة بالعمل الصالح، قضاها في خدمة "الحقيقة". ومآثر محجوب عديدة، فهو صحفي السودان الأول منذ عقود، الساهر على السلطة الرابعة ألا تسقط! جمع محجوب في هذه السكة العلم والعمل، فمن جهده المشترك وبشير محمد سعيد ومحجوب عثمان خرجت جريدة الأيام إلى الوجود في العام ١٩٥٣؛ وهو المشغول بحسن السياسة لا بسلطانها؛ وهو المؤرخ الكاتب لتاريخ الصحافة وتاريخ الحرب والسلام في جنوب السودان؛ وهو المربي على أكثر من صعيد، من بين ذلك لأجيال من الصحفيين.
موضوع هذه الكلمة في نعي المرحوم محجوب محمد صالح هذه الملكة التربوية، وتربية محجوب تربية بالقدوة الحسنة. وكان لهذه القدوة المهنية موضعين بارزين في جريدته الأيام، الأول صفحتاها الأولى والثانية، والثاني عمود رأيه الراتب «أصوات وأصداء» في صفحتها الثالثة. تلتقي قارئة الأيام في الصفحتين الأولى والثانية حصاد الجريدة من «الأخبار» وفي عمود الأستاذ محجوب في الصفحة الثالثة القدوة الحسنة في كتابة «الرأي» بمسؤولية.
رعى المرحوم محجوب من موقع رئاسة تحرير الأيام هذا التمييز الواجب بين الخبر كواقعة وبين الرأي كمسؤولية بحرص شديد. ولذا ظلت أخبار الأيام في بنائها وصياغتها أخبارا بمعنى نقلا لوقائع تحققت المحررة من صدقية وقوعها وترجمت ذلك إلى صياغة خلو من التقييم سوى الذي تفرضه اللغة بسياق المعنى، ولكن لا تنطق به صراحة، فالخبر ينقل ما تأكد وقوعه ويشير إلى المجهول عن تفاصيله دون تفريط في حقيقة الواقعة أو إفراط في التنبؤ بما غاب من تفاصيلها. ولذلك كانت في غالبها قصيرة النص منضبطة العبارة دون تخرص، تعف في معظمها عن المصادر المجهولة والمحجوبة والقوالات المرسلة. لهذا الشغف بقدسية الخبر قاعدة فلسفية مضمرة هي العقيدة في إمكانية التوصل إلى حقيقة واقعة ما، فهي حدث مادي إما وقع أو لم يقع، أي المادية إن طلبت المفهوم.
أما رأي المرحوم محجوب فقد أحاطت به على الدوام المسؤولية. فهو في معظم رأيه يسور واقعة ما بتاريخها، بالأبعاد المكانية والزمانية لحدوثها وبالعوامل الهيكلية التي تحيط بالفاعلين وتحدد اختياراتهم، اقتصادية وسياسية وأيديولوجية ثقافية.. الخ. احترف الأستاذ محجوب توطين الحوادث في تاريخ متصل، وكان هذا جوهر متابعته الطويلة للحرب في جنوب السودان منذ اندلاع شرارتها الأولى في ١٩٥٥، المعرفة التاريخية التي جمعها للقارئة تحت عنوان "أضواء على قضية جنوب السودان". والحرث في محيط حدث ما يخرج به، كما يعلمك الأستاذ محجوب، من حيز الواقعة كخبر، إلى براح التاريخ وقيده في آن؛ أو بصورة أخرى من مادية التجربة إلى إدراك العبرة. ولهذه العناية بتاريخية الوقائع، أي مسيلها في وديان وأخاديد وجروف سبق التاريخ بحفرها، كذلك قاعدة فلسفية مضمرة، هي المادية التاريخية إن طلبت المدرسة.
هذا التصور لازدواج براح التاريخ وقيده هو ما وقع عليه المرحوم كارل ماركس في افتتاح الفصل الأول من كتابه "الثامن عشر من برومير لويس بونابارت" (١٨٥٢) في الصياغة المشهورة: "يصنع البشر تاريخهم، لكن ليس كما يوافق هواهم، وليس في ظروف اختاروها بأنفسهم وإنما في ظروف سبق وقوعها، منقولة إليهم من الماضي. وتراث الأجيال السالفة يلقي بثقله كما الكابوس على أفئدة الأحياء." يواصل ماركس بعد أن أطلق هذا القانون ويكتب: "حتى إن بدا أنهم في شاغل تقليب أنفسهم وأمورهم وافتراع الجديد البديع تجدهم في عهود الأزمات الثورية هذه يستدعون برهبة أشباحا من الماضي لخدمة أغراضهم، يتمثلون الأسماء وشعارات المعارك والأزياء يريدون بهذا السمت المخضرم وبهذه الأصوات المستلفة أداء الفصل الجديد من مسرحية التاريخ.”
ينبه ماركس إذن إلى استدعاء الصور والرموز والشعارات والوقائع من الماضي لخدمة غرض في صراع حاضر، وميز هذه من هذا. يتضمن تصويره البديع للابتلاء بالتاريخ تشديدا على فعالية النتف المنتقاة من الماضي في صياغة "سرديات" الحاضر. وهنا محل فضيلة المرحوم محجوب محمد صالح الكبيرة، وعلة الشقاء بغيابها، أي الاعتقاد في إمكانية معارف موضوعية بالتاريخ، المعاصر والذي مضى، معارف لحمتها اختبار صدقية الوقائع، الأخبار بحق، وسداها توطين هذه الوقائع في تاريخ محيط.
ينشأ الرأي المسؤول، مثل الذي كان يكتبه المرحوم محجوب، على قاعدة من هذه المعارف التي توخى طالبها إجلاءها باختبارات الموضوعية. لم يكن الرأي عند المرحوم محجوب رأيا "مطلوقا"، ترجمة لمزاج أو ميل أو تعبيرا نرجسيا عن هوية منتخبة وحجاج، ولا نامت أعين الجبناء؛ لكن ظل المرحوم محجوب مشغولا بقارئته أكثر من مشغوليته بالتعبير عن خاص ذاتيته، يتوخى في رأيه التنقيب عن حقيقة أمر ما لقارئة تسعى هي كذلك لكشف هذه الحقيقة. والقاعدة المشتركة بين الإثنين، الكاتب والقارئة، أن ثمة حقيقة يمكن الكشف عنها بإحسان المعرفة بالوقائع والتدبر في التاريخ المحيط بها وأن هذه الحقيقة متاحة لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ويمكن أن تضيف هنا من العبارة الليبرالية: صرف النظر عن عرقه أو دينه أو لونه أو جنسه أو قبيلته أو ميله الجنسي أو ذوقه الأدبي أو فريقه المفضل، أو إذا كان من أنصار الجبلية أو هبة جبرة. ومن هذا الباب كان دأب المرحوم محجوب في صياغة رأيه العبارة الظاهرة الكاشفة والجملة الشفافة جلية المبنى، السهل الممتنع.
تقع هذه العقيدة في وجود حقيقة تاريخية ما يمكن التعرف عليها بموضوعية بوسائل الذهن البشري ويمكن التعبير عنها بلغة بينة العبارة تنقل إلى القارئة المقصود ويمكن إخضاعها لاختبارات الموضوعية ضمن افتراضات المادية التاريخية المار ذكرها، بل ضمن ما هو المنهج العلمي في عمومه. في المقابل، غزت هذا الحرز منذ نهاية السبعينيات الشكوك العظيمة التي قال عنها رسل ما بعد الحداثة أنها أساس عقيدتهم في إعدام إمكانية الحقيقة على إطلاق (على سبيل المثال جان فرانسوا ليوتار في "ما بعد الحداثة: تقرير عن المعرفة"، ١٩٧٩). وحلت محل الحقيقة التي يمكن التنقيب عنها بوسائل ذهنية يشترك فيها كل من ألقى السمع "سرديات" لا وسيلة لاختبارها موضوعيتها، بما أن الموضوعية نفسها بحسب رسل ما بعد الحداثة جرف هار. ولكل سردية وفق هذا التصور نفاذية خاصة في المكان والزمان المعينين وللجماعة المعينة لا تخضع للشك أو التساؤل، فكل سردية والأخرى سيان؛ إذ لا أساس موضوعي للمفاضلة بين سردية وأخرى سوى الشوكة التي تشيع سردية وتغمط أخرى، تحلل هذه وتجرم الثانية غصب كي.
لا حقيقة وفق هذا التصور سوى الهوى في معنى "واتبع هواه وكان أمره فرطا"، ولا جغرافية ذهنية مشتركة سوى اصطراع السرديات، سرديتي جغمت سرديتك. يرافق هذا التحول عن الحقيقة كإمكانية حتى إلى السرديات كأديان خاصة تحولا مكافئا من النص إلى الصورة، من الصراع الفكري في مجال عام تخضع المقولات فيه لاختبارات الموضوعية إلى الردم المتبادل بين أنصار سرديات متسابقة على الغلبة الدعائية في سوق للإعلانات، من عمود المرحوم محجوب إلى الفيديو القصير. والطريف المهلك أن الكاميرا التي تكشف حسا حتى عن مسامات جلد المتحدث ومر النمل في الأرض التي يقف عليها، تبتعد باقترابها الميكروسكوبي بالمتلقية المتأهبة اطرادا عن حقيقة ما ترى وتسمع. على عكس هذه المشهدية الميون الحقيقة التي ظل يحرث من أجلها المرحوم محجوب بحر الأحداث "تلاقيط"، تحتجب وتتستر، حيية نادرة، فاترة الطرف ساحرة، يا حليلها أمونة في غرب الضياباب!
No comments:
Post a Comment