نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٠ بتاريخ ١٦ مايو ٢٠٢٤.
نشأت عطبرة أول أمرها عن المغامرة الاستعمارية في السودان، ضُرّتها عبر النهر المدينة القديمة في الدامر، مركز علوم السودان النيلي تحت جناح السادة المجاذيب. يسرت هذه النشأة من عدم لعطبرة جدة في العمارة والثقافة كانت سكن وموطن عمال السكة حديد، أفراد الطبقة الاجتماعية الجديدة الشاردين من ركام الإنتاج الزراعي بعمل الرقيق في السودان النيلي، نمط الإنتاج العبودي في خريطة المرحوم كارل ماركس الشهيرة. نسج أهل أتبرا بجهدهم المشترك العروة الوثقى لرابطة العمل المأجور، شيلني وأشيلك، وكافحوا كفاحا طويلا عسيرا لتعزيزها برا بجسد العامل، مصدر فائض القيمة، فخرجت من هذا الكفاح أوسع مواعين الوطنية السودانية: الطبقة العاملة الواعية بنفسها، وأكثر مؤسساتها جماهيرية: النقابة.
تحولت عطبرة عبر قوس تاريخي من عاصمة للخُوّة العمالية العابرة للأقوام والأديان إلى متحف لها ثم بطفرة في قاعدة الاقتصاد إلى مركز لخدمات الذهب، تجهيزات التنقيب وآلياته ومواده، تشغيل عمال التنقيب وتشوينهم، اتصالات سماسرة بيع المعدن النفيس ومؤامراتهم. وتصيب الزائرة بعض آيات هذا التحول في جغرافية المدينة ومعمارها، من ذلك كما في بورتسودان الجمود الآركيولوجي لمحطة القطار القديمة، تحنطت ذاتيا بأنفة، كأنها مومياء تشهد على جحود اللاحقين بحنق أبدي، ذلك في مقابل الملجة الزاحفة في كل الاتجاهات لاقتصاد الذهب واجتماعه. لا يلقي التاريخ بالا للحنق، فهو ميدان الصراع، وزعلان السوق مين يرضيه؟
عضدت الحرب هذا التحول العطبرواي من عاصمة للخوة العمالية، خوة تنبئ عنها أطلال عطبرة القرن العشرين، إلى ثغر متقدم من ثغور جبهة الذهب. استعادت عطبرة الجديدة بلولب التاريخ الماكر موقعها كعاصمة للنقل وسوق عظيم لكن بإزاحة السوق القديم الذي حلت محله بصورة أو أخرى الملجة المحيطة بالميناء البري. "الموز أبو نقطة الكيلو بألف، العنب العلبة مليانة شديد بألفين، تلاته تفاحات بألف، البتيخة الكبيرة بألف. خلي بالك، حصل حصل!"
تَعُبُّ البرندات المحيطة بهذه الملجة الكبيرة بقوة العمل المنتجة للذهب، ومعظمهم في حيز هجين بين الحرفي الذي يملك بعض وسائل الإنتاج، كاشفة ذهب أو أدوات حفر، يشارك بها صاحب البئر، والأجير الذي لا يملك سوى قوة العمل يبيعها خام لصاحب المال. وأمل الواحد منهم أن يجمع بجهد السنين ما يكفيه للتحرر من العمل المأجور وشراكة من موقع أدنى لينتقل من الإنتاج المباشر إلى خدماته: النقل وإيجار العدة والسمسرة والتهريب وغير ذلك. ووعي العامل من موقعه في حلقات الإنتاج وعلاقاته، ولذا، ربما كان عسر التنظيم الفئوي للمنقبين عن الذهب من هذه الهُجنة، إذ لم ينشأ رأس مال كاسر يستأثر وحده بوسائل إنتاج متفوقة تقنيا ليطيح بملكوت الحرفي الصغير ويغرف حقل أرباحه.
يشد الأهل الرحال من هذا الميناء إلى جغرافية الحياة الجديدة، وأول ذلك خط البصات السفرية عطبرة – أسوان بتذكرة سعرها ١٠٠ إلى ١٥٠ ألف جنيه، وعطبرة – بورتسودان بتذكرة سعرها ٢٠ – ٢٥ ألف جنيه، وعطبرة – سنار وعطبرة – القضارف، وعطبرة – شندي، وعطبرة – صابرين. وتذكرة مقعد «الشريحة» بين عطبرة وصابرين بسعر ١٠ ألف جنيه. صارت بقعة أم درمان بهذا التحول هامش حربي تَسمى بالصبر وفقدت اسمها حتى، فمركزها اليوم صابرين، والصبر مفتاح الفرج.
تختبر المسافرة الطريق المكتظ بالشاحنات وحافلات النقل والعربات الملاكي بين عطبرة وصابرين، الطريق الذي يتحول من شرق النيل إلى غربه في مقطع المتمة – شندي، كسلسلة من نقاط التفتيش، بوليسية وعسكرية وضرائبية. فهذا هو شريان حياة أم درمان الحربية يعرض فيه جهاز الدولة المنهك بالحرب ما فيه من باس في قبض الضريبة وضبط السكان. يحرس نقاط التفتيش كوكتيل من القوات، شرطة وشرطة مرور وجيش وأمن وعاملين على الزكاة في النقاط الكبيرة، وجيش ومقاومة شعبية في النقاط الأصغر عند كل حلة وقرية. والتفتيش كما تختبره المسافرة متعدد الأغراض، بعضه كشف عن المنشأ بالسحنة واللكنة، وأعظم الشك في الفئات العمرية في سن القتال. وبعضه بحث عن عدة قتال مدسوسة. وبعضه تمييز للبضاعة، أمشروعة أم مسروقة، مدفوعة الضريبة أم كيري، وهذا أكثر ما يشغل نقاط التفتيش حيث تنتظر الشاحنات عند النقاط الكبيرة دورها في تمحيص الفواتير والكشف على البضاعة. وبعضه حماس شباب القرى لتأمين محيطهم.
تغشى المسافرة هذا الطريق بين نقطتين تشدها نقطة الوصول، فهو عندها طريق للشوق القَلِق. لكنه لغيرها من شاغليه موطن وسكن ومعاش. انقضى للتو الموسم الشتوي، وحصد الأهل فولهم وبصلهم وثومهم. تعبر الشاحنات حاملة الكونتينرات القياسية المستطيلة، معظمها مصرية الترخيص، هذا الطريق محملة بالبصل في أكياس شبكية من خيط البلاستيك الأحمر مخصصة لعيار الصادر متجهة شمالا. وتعبره اللواري السفنجة محملة كذلك بالبصل في شوالات خيش للسوق المحلي، جنوبا نحو أم درمان وشمالا نحو عطبرة ومنها إلى سواها. وبعض البصل ما زال في المزارع، في أكوام عظيمة يغطيها القش، آمنة من السرقة المسلحة بفضل الحراسة المشددة على طول الطريق. يشد النظر في موقع وآخر مشهد المفاوضات الثلاثية بين تربال وسمسار وتاجر في ظل اللوري، كأنهم أبطال مسرحية من فصل واحد يتكرر منذ شنكل السوق قدم فاطنة السمحة في شركه.
هذه المفاوضات مسابقة في عض الأصابع. البصل المكوم في الحقول مهدد بالفساد ما لم يلفاه تخزين ملائم. ولا يستطيع التربال الخارج لتوه من نَهضّي الموسم توفير المال اللازم لترحيل محصوله مباشرة إلى سوق كبير. والتاجر صاحب رأس المأل مهدد بتدهور قيمة ماله السائل في عباب التضخم ما لم يتنقل في جسد السلع، بل تضاعف هذا التهديد بالفوضى الحربية المحيطة به، فلن يستطيع، ومسالك التجارة ميدان للنهب والسلب، التحول السريع من بصل بير الباشا إلى سمسم أم روابة أو أمباز الرهد أو صمغ جنوب كردفان حسبما يمطر الربح. أما السمسار، فمصدر خراجه المعلومات، هو العالم بقلق المزارع وظروف تعثره، مرته الوالده حديثا، أخيه الذي ينازعه في الأرض، البوكسي المعطل في حوش داره والديون التي تثقل كاهله، وهو العالم كذلك بحسابات التاجر، مخازنه التي طالتها الشفشفة، البنك الذي ينتظر رد مال مقروض، التاجر الأكبر في سلسلة الذي ينتظر وصول البضاعة في الميناء، وهو صاحب الصلات في نقاط التفتيش وبين عاملي الزكاة وجماعة جمارك الميناء، ويرفع فوق هذا وذاك سيف بيع الكسر!
يجمع السمسار المعلومات من البيئة المحيطة ومن صاحبيه مباشرة فهو ملك الراكوبة والسندة، محترف الونسة الذي لا يهمل شاردة أو واردة، بما في ذلك المرة الثانية المدسوسة في الحلة التحت أو الخسارة الأخيرة التي وسوس بها الجماعة في سوق القضارف، أصبح الموبايل بيده أذنا طويلة وكرة بلورية، سبحان الله. تجد الباحثة وصف هذه الشخصية المبكر عند الرحالة بروس الذي زار شندي في بداية القرن التاسع عشر وكتب أن بعض تجاره راكموا مالا كثيرا لكن ترددوا في الانخراط في تجارة الجملة نظرا لمخاطرها. أما السماسرة الذين عج بهم السوق فكان شغلهم التوسط في المعاملات الكبيرة لكن تعذر عليهم لنقص رأس المال شراء كميات كبيرة من السلع لبيعها لاحقا فتوسلوا الصلات مع التجار وتخصصوا في معلومات القوافل الصادرة من السوق والواردة إليه، مالها وبضاعتها وأمنها وضريبتها المستحقة للمك. وسعر البيعة حصيلة العرض والطلب، نعم، لكن بلوغاريثمات هذه المعلومات: ثلاث تفاحات ألف جنية، حصل حصل!
No comments:
Post a Comment