Thursday, 23 May 2024

جورنال من البلد: عَمّ البلدْ أنفاسُه

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣١ بتاريخ ٢٣ مايو ٢٠٢٤.

ربما سبقت أمْ مرّحي الواقعة على ضفة النيل الغربية حوالي ٤٠ كيلومتر شمال أم درمان البقعة نفسها في النشأة، وقد سبقتها على كل حال كعاصمة روحية ففيها مسيد الشيخ أحمد الطيب البشير ود مالك ود محمد سرور (١٧٤٢-١٨٢٣)، مؤسس الطريقة السمانية في السودان، ومرقده الأخير. وهي بهذا القياس عاصمة لقطب من أقطاب الزمان. وُلد الشيخ الطيب في أم مرحي نفسها وتلقى العلوم في مسجد جده محمد سرور. كان محمد سرور من خاصة الشيخ حسن ود حسونة ويعتبر وريثه الروحي، وإليه يعود الجامع القائم في أم مرحي، وجاء تعريفه في طبقات ود ضيف الله كما يلي: "محمد بن سرور بن الحاج غناوة سلك الطريق على الشيخ حسن ولد حسونة وأرشده وجاءه بنفسه خطى له مسجده ولازم المسجد المذكور للعبادة وتلاوة القرآن صايم النهار وقايم الليل وكانت عنده دنيا عريضة لا توجد إلا عند الملوك والسلاطين ونسل أولادا كثيرة كلهم صالحون طيبون مباركون ودفن في مسجده بأم مرحي وقبره ظاهر يزار."

أسرة الشيخ أحمد الطيب واحدة من أربع أسر سودانية تشابهت سيرها في السلوك عند مؤرخ الإسلام في السودان ترمنجهام، والثلاث الأخريات آل غلام الله والميرغنية وآل إسماعيل الولي. ومن أحفاده محمد شريف نور الدائم (١٨٤١-١٩٠٧)، أستاذ الإمام محمد أحمد المهدي.  أخذ الشيخ أحمد الطيب البشير الطريقة السمّانية من مؤسسها في الحجاز محمد عبد الكريم السمّان (١٧١٩-١٧٧٥) خلال سبع سنوات قضاها في الحرمين الشريفين بعد تنقل بين مدارس السودان النيلي، حيث تلقى العلوم في جامع الفقيه ود أنس العوضابي في الجزيرة اسلانج القريبة، وسلك على يد الشيخ عبد الباقي (الشيخ النيّل)، ودرس في مسجد الفقيه أحمد الفزاري الفرضي في أم طلحة. ثم لزم الدروس في مسيد جده فقرأ على يد علماء أم مرحي العشماوية والعزية وشروحها وحواشيها ورسالة أبي يزيد القيرواني وشروحها وأقرب المسالك وشرحه ومختصر خليل، ولازم الفقيه سعيد ود بدري في الفجيجة مدة، ثم قصد الحج وهو في السادسة عشر من عمره حيث اتصل بالشيخ محمد عبد الكريم السمّان وسلك على يديه.

عاد الشيخ أحمد الطيب من رحلته تلك عابرا سواكن إلى أم مرحي واستطلع الظروف للتبشير بالطريقة الجديدة. ثم شد الرحال مرة أخرى إلى المدينة المنورة عابرا مصر، الزيارة التي أرخ لها مادحه الشيخ المكاوي في "يا ليلة ليلك جنّ"، درة من درر مديح السودان النيلي. زار الشيخ في سفره الشيخ حمد ود المجذوب في الدامر، وساح في الصعيد فزار قنا وسوهاج وقريب منها إخميم وأسيوط وهوار وأقام فترة في القاهرة وزار الجامع الأزهر والتقى بعض علمائه. وعاد من رحلته في ١٧٦٩ ليستقر في مسيده، فهو منذئذ "راجل أم مرحي":

جا من طيبة ومنارة وفي إخميم دخل بإشارة

ذكر القلل بعبارة وعشرة آلاف سكارى

والعلماء اندهشوا حيارى

أتوجه مصر المعلومة وجاتو الثقاة بعلوما

الأربعين عزومه أجزا وفّى لزوما

في مصر سوا بيانو واتوجه لسودانو

جوهو الخلوق بلدانه رووا من دنانه وزانوا

في أم مرحي دق ساسه عم البلد أنفاسه

قصد أهل أم درمان الحربية أم مرحي طلبا لشبكة الاتصالات أوان انقطاعها، واجتمع الخلوق أعلى الجبل (ارتفاع ٤٠٠ متر تقريبا) القريب من مدفن الشيخ أحمد الطيب هاتفهم يقول "لقطت.. لقطت"، فالشبكة وصل الأحبة وشريان بنكك. وفي باطن الجبل مغارات كانت مواضع خلوة شيوخ أم مرحي وجلوتهم، التقطوا فيها الفيوض خلال ٤٠٠ عام مضت أو يزيد، هي تاريخ أم مرحي ومسيدها، فما دولة ٥٦؟ على خلاف فيوض المشايخ لم تُمكّن الشبكة وقتها طالب الوصل أكثر من قول: خالك بكري لقيناه مكتول في بيت أب روف؟ ما سمعتك كويس، الصوت بقطع. قلت ليك: بكري خالك، ضربوه الدعامة، لقيناه في بيت أب روف ميت. منو؟ علي ماله؟ بكري قلت ليك بكري، الله يرحمه. مات! لا حولا، متين؟ ماله؟ ياخي قلت ليك ضربوه، ضربوه طلقة. المهم، ما تنسى دوا ستنا، دوا ستنا!

نهضت أم مرحي بمسيدها لمهمة الستر، ففيها على مسافة من أم درمان الحربية منافع للمساكين وأهل السبيل، يقصدون كسرتها غير المقطوعة أو ممنوعة، لا يلزمها تسجيل ببطاقة أو تصوير بآلة، فالمسيد مذ نشأ مفتوح على الشارع في كناية حديثة. تشهد زائرة المسيد هذا الخير بعلاماته، الإبل والضأن وشوالات العيش والبصل، يأتي بهذا الخير تقاة وأصحاب مسائل، ويصب من هذه الموارد في قيزان عظيمة فواحة هي وسيلة الأهل لتصويب عوج التوزيع حيث مال كل الإمالة وسد الفرقة. والكسرة عند مثل الشيخ أحمد الطيب هي مادة الدين، ومن ذلك قول العبيد ود بدر، سيد بقعة أم ضبان: "أدي القرش وفرّش البرش واملا الكرش شوف كان ما الناس عليك تندرش." تستفيد زائرة المسيد وظائف أخرى لهذه المؤسسة، فهي مدرسة لتعليم الزراعة ومعسكر لإعادة إنتاج قوى العمل الزراعي؛ يتخرج فيها الحوار تربالا قويما، يتأدب بخوة الكسرة ويتدرج في الإنتاج كوسيلة لإدراك نصيب من الفائض الاجتماعي.

شهد على هذه الوظيفة الإنتاجية كذلك المرحوم الطيب محمد الطيب، أستاذ علوم السودان، في مؤلفه «المسيد» (طبعة دار عزة، الخرطوم، ٢٠٠٥ [١٩٩٠])، وكتب في هذا الخصوص: "ولم يكن النشاط في هذه المرحلة يقتصر على الدراسة بل إن الطلاب كانوا يساهمون في زراعة الأراضي للمجاذيب وهبات الخلاوي من الأراضي التي يدفعها الملوك والأغنياء. وكان الطالب يملك حق العمل في الأراضي الأخرى أو الاحتطاب أو توفير بعض المال رغم مجانية الإعاشة والسكن في خلاوي المجاذيب" (ص ٢١٣). وشيخ المسيد خبير ومرشد "في المسائل الزراعية والرعوية وينبغي للشيخ أن يلم بمعرفة المواسم الزراعية دخولها وخروجها كما يعرف الأنواء وتقلباتها والأمور والمسائل التي لا يعرفها يوجههم لمن هو أدرى بها فيقصدونه لمشورته" (ص ١١٩).

لكن الشبكة حتى من أعلى جبل أم مرحي لا تغني، وإن صفت ووصلت، عن زمالة الدافنة الرؤوم، خاصة وقد أنشب الموت الحربي أنيابا طويلة في الجسوم ونصالا أمضى في سترة الاجتماع، الجيرة والرحم والزمالة. مس الأهل قرح من فداحة هذا الموت المتسارع، لكن ضاقت نفوسهم أكثر بفوت الطقوس وما تبثه من طمأنينة. كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول، لكن بما يستحق من الإكرام. فالإنسان متى استأنس ليس وحشا في برية يزقل زقلا وقتما انقطعت أنفاسه، وصلاحه في عطن الثقافة وبلها، يرنو إلى الرموز والطقوس وبها يتعلق، يسعى روح عالم لا روح فيه بعبارة المرحوم كارل ماركس.

اختار المرحوم بكري منذ أمد طويل برا بوالدته سكنة في مقابل الدار الأم في أب روف، يراوح كل يوم بين الدار الأم وداره وعياله ويخاوي الأرزاق والمصائر. همبت جنود دقلو داره ودار أمه وهددوه بالقتل إن لم يغادر ويخلي "الموقع" في عبارتهم، فالموقع يصلح للتدوين. وكيف يبارح دارا لا يعرف سواها وكيف ينقل أما في التسعين ويزيد. بعث بكري أسرته الصغيرة إلى مأمن وظل مرابطا حيث هو حتى هجم عليه جند دقلو في ظهيرة ساطعة، قيدوه وساقوه أعزلا ورموه بالرصاص وزقلوا جثته في بطن خور. لم نقف على المرحوم بكري نلقنه الشهادة في ساعته الأخيرة، ولم نطرح جسده بيننا للغسل نكشف كل شامة وخدش وننفذ إلى عورته، ولم نضمخه بطيب البرود، ولم نلفه في كفن أبيض من الأكفان التي كان يجمعها لمثل هذه الساعة برا بالجيرة، ولم نحمله على عنقريب عليه مصلاية قطيفة نتبادل الحمل بيننا ونتنافس، ولم نقف عليه نصلي جماعة، ولم نحفر له قبرا في أحمد شرفي جوار قبر أبيه كما أوصى نتبادل المعاول بيننا ونعرق، ولم نتجارط عند قبره إن كان رأسه نزل عديل أو مال، ولم نهل عليه التراب نستره حتى يغيب بياض الكفن ونكوم من فوقه التراب، ولم نقرأ على قبره الصلوات ونكر يس مرة وأخرى، ولم نبرد عليه بالماء من فوق ذلك، ولم نغرس سعفة نخل في قبره علامة حتى نهيئ له شاهدا يحمل اسمه، ولم نتلقّ الفاتحة من الأهل والأحباب وننخج، ولم نفرش عليه كما يستحق وكما كان يحب، وهو رائدنا في بيوت البكا، ولم نذبح ذبيحا نطعم الناس أو نشرب الشاي في المغارب نذكر محاسنه ونلعن الحكومة، ولم نرفع الفراش بكلمة عن فضله وحسن سيرته بيننا، فمن الذي مات؟


No comments:

Post a Comment

 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.